يتميز الرحالة و المصور الفرنسي جيل جرفيه كورتلمون بانه موهبة ميزته عن سابقيه من الرحالة لانه اهتم بالتصوير الفوتوغرافي
رحل كورتلمون الى مكة في مهمة رسمية سرية للحكومة الفرنسية بدعم و تمويل من وزارة المستعمرات الفرنسية
مهمته هي الحصول على تأكيد صحة الفتوى التي حملها الحاج الجزائري - أكلي -
نص هذه الفتوى بأن علماء المسلمين يقرون بالسيطرة الفرنسية الكاملة على الجزائر و تونسو يرون ان الجزائر دار سلام لا حرب
و يرون ايضا ان سلطة فرنسا فيها تتوافق مع تعاليم القرآن الكريم
وليتدرب على التخفي عاش عدة سنين في الجزائر يدرس الدين الاسلامي و يتدرب على الشعائر الاسلامية
انتحل كورتلمون جنسية جزائري في رحلته الى مكة لاداء فريضة الحج، وتسمى باسم عبدالله و اخذ في رحلته صورا نادرة جدا لمكة و جدة
ولد كورتلمون عام ١٨٣٦ في افون فرنسا. بعد وفاة والده انتقل الى الجزائر ضمن من انتقل اليها من المستوطنين الفرنسيين
كانت فرنسا تشجع الهجرة الى الجزائر في سياسة استعمارية لتكون الجزائر فنسية خلصة
عايش كورتلمون القرويين الجزائريين و جذبه الاسلام فعكف على دراسته، امتهن التصوير و اشبع هوايته في الاسفار داخل الجزائر
صور كورتلمون بكاميرته اول صور لافتتاح الخط الحديدي الحجازي، و زار القاهرة و اسطنبول و دمشق و الهند و التبيت و بورما
سجل كورتلمون نتائج رحلاته تلك في خمس مجلدات، بدأ كورتلمون رحلته الى الحج عام ١٨٩٣
قال له صديقه الطبيب المغربي عبدالرحمن الذبيبي "اعرف حبك للاسلام، سافر ولا تخش شيئا و خذ حذرك من حرارة الشمس"
توج كورتلمون رحلته الى مكة بكتاب " رحلتي الى مكة "، عكف آخر حياته على تأليف يشرح فيه الاسلام عام ١٩٣٠
احتار المؤرخون، هل كان كورتلمون مسلما حقا؟ كانت هناك معلومات متضاربة
القنصل الفرنسي في جدة كان يقول انه ادعى الاسلام وليس ذلك الا مناورة تسمح له باشباع فضوله الدنيوي
كما غمز القنصل الفرنسي الى امانة كورتلمون بما كتبه من تقارير لوزارة الخارجية الفرنسية
كتب روبن بدول، صاحب كتاب الرحالة الغربيون في الجزيرة العربية يقول فيها " تلا زيارة ليون روش لمكة فرنسي آخر من الجزائر ..
.. يدعى كورتلمون وهو مصور محترف شجعه اصدقاءه المسلمون على الذهاب الى مكة"
كتب كورتلمون: " اني احب الاسلام لبساطة عقيدته و تعجبني اهدافه التي لا تتزعزع، دون ان املك الجرأة على الاعتقاد به"
حصل كورتلمون في نهاية مهمته على تقدير بلاده التي كانت راضية على اداء مهمته السرية، نال وسام الشرف بدرجة فارس
كان شجاعا و يتميز بحنكة و نجح في ظروف صعبة و محفوفة المخاطر و كتب وثائق لا تقدر بثمن
نال الوسام بعد ان اقسم في تقرير رحلته انه سمع من المفتي في المدينة المقدسة ان الفتوى التي حصل عليها باستعمار فرنسا كانت صحيحة
في بداية رحلة كورتلمون للحج كان مدفوعا لكشف اسرار مكة وقال: "اردت الولوج لاسرار هذه المدينة لانني كنت مدفوعا برغبة اكمال ..
.. دراستي الشاملة عن المشرق المعاصر، مهد الديانات السماوية، هذا المشرق المسلم الذي احبه كما يحبونه الذين يعرفونه حق المعرفة"
لم يحب كورتلمون المنطقة فحسب، بل احب ديانة اهلها وقال انه يحب الاسلام في ايمانه الخالص و يحب فيه الامل الراسخ
ضمن كورتلمون كتابه بالكثير من الصور للاماكن المقدسة و اهلها و عمرانها و عادات سكانها ليضفي عليه المصداقية
انقسمت السلطة الفرنسية الى قسمين، قسم ايد سفره للحج، و قسم عارضه، في النهاية سافر الى الحج تحت اسم عبدالله ابن البشير
قال كورتلمون: "لا ارى شيئا اكثر تشريفا للرجل الفرنسي من ان تكلفه حكومته للقيام بمهام خارجية"
خرة كورتلمون من الجزائر عام ١٨٩٤ مع صديقه الجزائري أكلي، وكان أكلي قد شجعه على اداء فريضة الحج
اتت رحلة كورتلمون الى الحج بعد ٥٠ عاما من رحلة ليون روش، اتفق مع زميله ان يسافر الى السويس اولا و منها الى الحج
التقى أكلي في السويس و كان مريضا و نصحه الاطباء بتأجيل الرحلة لانه كان بحاجة للرحاة و الهواء النقي
بعد شفاء أكلي، غادرا سويا الى جدة
غادر كورتلمون السويس الى جدة على متن سفينة التي كان يرى على متنها متحفا انثوغرافي و مجموعة مختلفة من الاجناس و الاعراق
تدريجيا زادت الالفة بين الركاب المسلمين. اعجب كورتلمون من بين الركاب بتاجر من المدينة المنورة لمعرفته بجميع ما يجري في المنطقة
بعد ثلاثة ايام من مغادرة السويس، وصلا الى جدة، كان يصعب على السفينة الاقتراب من رصيف الميناء بسبب الشعاب المرجانية الخطيرة
يأتي مرشد من الميناء و يقود السفينة ببراعة بين الشعب المرجانية الى مكان تأتي اليه القوارب لنقل الحجاج الى رصيف الميناء
كان السنبوك الذي يحمل كورتلمون يلتوي بين الصخور المرجانية، كانت المسافة قصيرة الى رصيف الميناء ولكن محفوف بالمخاطر
عندما وصل الركاب، بدأ الزحام على طريق التزول، صراخ و صياح و تدافع بين الناس، تأشيرة الجوازات و اجراءات الجمرك .. الخ
شعد كورتلمون ان السلطات التركية تتعقبه لمعرفة تحركاته حين كان يشتري من السوق
وصف كورتلمون جدة قائلا: "شاطئها محترق مجدب، مرفأ موحش، وضعها محزن، لا يمكن تحمل الاقامة فيها، يقتلك الناموس ليل نهار ..
.. لا يمكن تحمل الاقامة فيها، الماء فاسد، لحرارة و الرطوبة مرهقة، لا يوجد فيها اثر للخضرة، منظر مدينة جدة محزن"
ولكنه وصف شوارعها بالحيوية، ارصفتها مليئة بالبضائع، جدران مبانيها حجرية، مشربياتها جميلة، سورها قوي
عبر كورتلمون عن اسفه لاهمال الاتراك المتعمد لهذه لمدينة جدة و الذي ستندم عليه يوما ما
وصف كورتلمون نظرات الشك و الريبة من سكان اهل جدة تجاهه و الذي كان يثير غضبه هو وصديقه
خفت نظرات الشك عندما دعا العمدة كورتلمون و صاحبه الى مأدبة عشاء و دعا اليها وجهاء جدة و اعيانها
للوصول الى مكة كان عليه ان يختار اما الجمال او الحمير، كان يرغب في امتطاء الجمل الذي يحب خطواته الناعمة على الرمال
الا ان كورتلمون اختار الحمير لانها تختصر المسافة الى يوم بدلا من يومين على ظهر الجمال، لبس كورتلمون الاحرام و سافر الى مكة
ركب كورتلمون على حماره عاري الجذع حليق الرأس تحت وجه الشمس المحرقة وكان اكثر ما يخشاه هو ان يصاب بضربة شمس
وصف كورتلمون مظاهر انعدام الامن في الطريق الى مكة قائلا: "كنا نسير و قلوبنا منقبضة نتقاطع مع القوافل دون ان نتوقف"
لم يتبادل كورتلمون الاحاديث مع الاخرين ولا حتى السلام خلافا للاعراف العربية، كان دائم الاستعداد لخوض معركة ويده على الزناد
توقف كورتلمون في حدة للراحة و وصلاة العشاء. شاهد تصرفات الادلاء و الجمالين و الحمارين مما يعكس خوف الجميع
كان كورتلمون يعيش احلك الظروف في حياتهو ماذا سيكون غدا؟ ما المصير الذي ينتظره عند دخوله للحرم الشريف في اليوم التالي؟
تجاوز الرحالة فجرا علامات الحرم وهي نقطة بداية تحريم الصيد، وكانت الطيور و الدواب آمنة تركض امام الناس دون خوف
كان وصوله الى مكة مفاجئا ولم يعلم انه وصل الا بعد ان وطأت قدماه اولى شوارع مكة
اقتاد المطوف عبدالرحمن بوشناق - مطوف المغاربة - كورتلمون الى مكان اقامته في مكة المكرمة
نظر الى الكعبة المشرفة شامخة و فند ادعاء الغرب ان الكعبة المشرفة ليست قبر الرسول صلى الله عليه و سلم
قال ان الكعبة هي بيت الله بالنسبة للمسلمين، سرة المسلمين، و كلهم حول العالم يتجهون اليها في صلواتهم
جلس كورتلمون في ساحة الحرم ينتابه شعور الاجلال و الاحترام و الحب، بعدها شرع في اداء اولى الصلوات ومن بعدها الطواف
انتاب كورتلمون حالة من الخشوع جعلته كما يقول، يفقد الاحساس بالجوع و التعب و العطش
وصل كورتلمون الى مكة قبل موعد الحج بشهر، وهذا مكنه وبسبب فراغ المكان من التمعن في ما يتعلق بالاكل و المبيت
سجل كورتلمون مشاعره قائلا: "شربت بلذة من ماء زمزم الذي كنت استزيد من شربه، لم يغمض لي جفن منذ ثلاث ليال منذ وصولي ..
.. استحضر ذكريات الايام التي قضيتها بمكة، هذه المدينة الخارقة، نزعت رداء حياتي الادمي لاغرق في نوع من السبات الروحي"
خصص كورتلمون في رحلته مساحة ليفند فيها دعاوي تلوث ماء زمزم
استطاع اثناء مقامه بمكة و سكانها يومئذ ١٠٠ الف نسمة، ٧٥٪ منهم من الهنود. تجول كورتلمون في احيائها وتعرف على شوارعها
استغرب كورتلمون من ترك الفوانيس مضاءة ليلا و اسواقها حيث تباع بضائع من ماركات اوروبية، داعيا فرنسا لتسويق بضائعها في مكة
قدم كورتلمون وصفا لضواحي و مباني مكة و اهتمام سكانها بتنظيف شوارعها بانفسهم
تحدث عن ظاهرة غريبة في مكة، جمال خضر تأتي كل ليلة الى مكة تحمل اهل التقى من موتى المسلمين من انحاء العالم
وتحمل هذه الجمال رفات غير المستحقين للدفن في مقابرها الى بلد بعيد، ونقل مفتي المالكية الشيخ عابد ما يعزز هذا ..
منها قصة فتى موركسي احب اميرة اسبانية اسلمت على يديه ثم فرقهما والدها النصراني
ماتت هي و دفنت في بلاد الروم، و لما اراد الفتى نبش قبرها لاسترداد اسورة كان اهداها اياها، فوجئ بجثة رجل بيده سبحة تلمع
اخد الشبحة و سافر بها الى مكة، وبينما كانت السبحة في يده وهو يتجول في شوارع مكة، اذا بمن يصيح فيه ان هذه السبحة لوالده
قال ان والده دفن في مقبرة المعلاة و اتهمه بانه نبش قبره و سرقها ..
عودة الى رحلة كورتلمون، تحدث الرحالة عن المطبعة الوطنية التي تطبع الكتب الدينية، وقال فيها: " خالجني احساس انني اقف امام ..
.. امام احدى مصادر قوة المستقبل، تنطلق من هذه المطبعة كتب تنشر في انحاء الدنيا تطالب بالزام الغرب بعتق الاسلام و تحريره"
اكبر كورتلمون في وصف اخلاق اهل البادية ممن يسكنون او يفدون الى مكة، قال انهم يعدون انفسهم من الاشراف
انفة مظهرهم شيء رائع. ظلوا احرارا بامتياز لا يقبلون اي نوع من انواع العبودية، بلدهم لا يزال الى اليوم بلد الحرية، لا تخضع لاي قيود
كانت موارد الوقود في مكة شحيحة، و يستخدم المكيون بعر الجمل المجفف و الخشب و نوعا شيئا من الفحم في الطبخ
وصف كورتلمون مشعر منى بعد الحج وهو خال من ٢٠٠ الف حاج بارض فسيحة صحراوية و عادية
كان ينتابه شعور بالخوف من ان يفتضح امره فيعدونه جاسوسا وربما يقتل، لانه لا يوجد من يمكن ان ينقذه مثل سلفه ليون روش
كان يواجه كل من يسأله ان كان جاسوسا انه لو كان كذلك لتخفى بين حسود الحجاج الاجانب و لم يكن احد ليلحظ ذلك
لفت الشيخ محمد عابد بن حسين نظر كورتلمون انه ينبغي ان يفرح لتساهل السلطات مع الاجانب تلك الايام
وقال ان السلطات وقبل سبع سنوات من ذلك التاريخ كانت تخلي مكة من الاجانب بعد موسم الحج
كانت اللحظة الحاسمة من رحلة كورتلمون عندما تمكن من التقاط بعض الصور لمكة من كاميرته التي كان يخفيها بين سجاد الصلاة
التقط كورتلمون صورا لمكة من فوق قمة جبل ابي قبيس، وكانت اولى الصور التي التقطت لمكة، وهي اكثر بلاغة من اي وصف
لما انهى كورتلمون المهمة التي ندب نفسه وندبته فرنسا لها، وجمع كل ما يحتاج من معلومات عن المدينة و احوال سكانها
زار الشيخ محمد عابد مفتي المالكية و طلب منه ان يحرر له رسالة تدل على صدق تعبده، و حرر له المفتي هذه الرسالة و كتب فيها ..
.." أمعنا النظر في حاله فوجدناه مؤمنا حقا"، وفيها توصيات لحاملها بالمزيد من معرفة الدين الاسلامي
امتطى الحمير مع صديقه أكلي للعودة الى جدة، التحقا بمسافرين آخرين في الطريق، سقط سبع مرات من ظهر الحمار ولم يصاب باذى
وصل كورتلمون الى جدة دون توقف عدا استراحات في نقاه في الطريق، دخل كورتلمون جدة من بوابة باب مكة
تلقى كورتلمون في جدة التهاني الحارة من القنصل الفرنسي على عودته سالما، وقام بعدة جولات داخل احياء جدة
كان كورتلمون دائم الحذر من الذين يراقبون تحركاته الا انه كان اكثر ارتياحا، و التقط العديد من الصور لمدينة جدة
كادر كورتلمون جدة على متن سفينة نمساوية كانت على وشك الابحار، ودع اصدقاءه من شخصيات جدة الذين ساعدوه في البداية
على متن السفينة ارتدى ملابس انيقة و تخلى عن مظاهر الفقر التي ساعدته في تشتيت الانتباه عنه و تخلص من التحفظ الصارم
كانت السفينة في طريقها الى ميناء ينبع، و كان يخطط للسفر الى المدينة المنورة، اقتربت السفينة من ميناء ينبع
كلما اقتربت السفينة بدا المنظر خلابا و تبدوا في الافق الجبال الشاهقة، لاحظ في اسواق ينبع انتشار تجارة الجملة
كانت البضائع تفرغ على ميناء ينبع، و تتقدم قوافل الجمال المتجه للمدينة لشرائها و نقلها الى المدينة المنورة
غادر كورتلمون ميناء ينبع دون زيارة المدينة المنورة بسبب مرض رفيقه أكلي
ولكنه عاد لاحقا و زار المدينة في مناسبة تدشين قطار السكة الحديد الحجازي عام ١٩٠٨ وفيها التقط كورتلمون اول صورة ملونة للمسجد النبوي
من ثمار زيارته لمكة ان فرنسا منحته وسام الشرف برتبة فارس
ينهي كورتلمون رحلته بالتاكيد على امرين، شعوره بشك اهل الحجاز باسلامه رغم انه لم يبدر منه اي تصرف فيه سخرية من الاسلام
و الثانية موقفه من الاسلام الذي لم يتغير قبل الرحلة و بعدها، و كرس صفحاته لتبديد سوء الفهم المزعج عن الاسلام
كان ينظر الى المستقبل الذي يتحقق فيه حلمه الجميل في السفر الى قلب الجزيرة العربية نجد
وصف الدكتور محمد خير البقاعي في محثه بمجله مكتبة الملك فهد الوطنية ان كورتلمون يكتب في كتابه عن الاسلام بروح المحب للاسلام
وهذا نادر مما يجعلنا نعجب المؤلف و نهنئه من صميم الفؤاد لانصافه و تجرده
و اشار البقاعي ايضا ان كورتلمون رزق بمولود كان له ثلاث اسماء، فيكتور، شارل، و عبدالله، ليسجل اهتداء كورتلمون للاسلام
مرض كورتلمون ١٥ شهرا و توفي عام ١٩٣١ في فرنسا، كفنوه بثوب احرامه الذي ادى فيه الحج
دفن و معه حلقة من الفضة بداخلها رسالة من مفتي المالكية وفيها انه "كان مسلما حقيقيا لا يبتغي في ذلك الا وجه الله" ….. انتهى
رحل كورتلمون الى مكة في مهمة رسمية سرية للحكومة الفرنسية بدعم و تمويل من وزارة المستعمرات الفرنسية
مهمته هي الحصول على تأكيد صحة الفتوى التي حملها الحاج الجزائري - أكلي -
نص هذه الفتوى بأن علماء المسلمين يقرون بالسيطرة الفرنسية الكاملة على الجزائر و تونسو يرون ان الجزائر دار سلام لا حرب
و يرون ايضا ان سلطة فرنسا فيها تتوافق مع تعاليم القرآن الكريم
وليتدرب على التخفي عاش عدة سنين في الجزائر يدرس الدين الاسلامي و يتدرب على الشعائر الاسلامية
انتحل كورتلمون جنسية جزائري في رحلته الى مكة لاداء فريضة الحج، وتسمى باسم عبدالله و اخذ في رحلته صورا نادرة جدا لمكة و جدة
ولد كورتلمون عام ١٨٣٦ في افون فرنسا. بعد وفاة والده انتقل الى الجزائر ضمن من انتقل اليها من المستوطنين الفرنسيين
كانت فرنسا تشجع الهجرة الى الجزائر في سياسة استعمارية لتكون الجزائر فنسية خلصة
عايش كورتلمون القرويين الجزائريين و جذبه الاسلام فعكف على دراسته، امتهن التصوير و اشبع هوايته في الاسفار داخل الجزائر
صور كورتلمون بكاميرته اول صور لافتتاح الخط الحديدي الحجازي، و زار القاهرة و اسطنبول و دمشق و الهند و التبيت و بورما
سجل كورتلمون نتائج رحلاته تلك في خمس مجلدات، بدأ كورتلمون رحلته الى الحج عام ١٨٩٣
قال له صديقه الطبيب المغربي عبدالرحمن الذبيبي "اعرف حبك للاسلام، سافر ولا تخش شيئا و خذ حذرك من حرارة الشمس"
توج كورتلمون رحلته الى مكة بكتاب " رحلتي الى مكة "، عكف آخر حياته على تأليف يشرح فيه الاسلام عام ١٩٣٠
احتار المؤرخون، هل كان كورتلمون مسلما حقا؟ كانت هناك معلومات متضاربة
القنصل الفرنسي في جدة كان يقول انه ادعى الاسلام وليس ذلك الا مناورة تسمح له باشباع فضوله الدنيوي
كما غمز القنصل الفرنسي الى امانة كورتلمون بما كتبه من تقارير لوزارة الخارجية الفرنسية
كتب روبن بدول، صاحب كتاب الرحالة الغربيون في الجزيرة العربية يقول فيها " تلا زيارة ليون روش لمكة فرنسي آخر من الجزائر ..
.. يدعى كورتلمون وهو مصور محترف شجعه اصدقاءه المسلمون على الذهاب الى مكة"
كتب كورتلمون: " اني احب الاسلام لبساطة عقيدته و تعجبني اهدافه التي لا تتزعزع، دون ان املك الجرأة على الاعتقاد به"
حصل كورتلمون في نهاية مهمته على تقدير بلاده التي كانت راضية على اداء مهمته السرية، نال وسام الشرف بدرجة فارس
كان شجاعا و يتميز بحنكة و نجح في ظروف صعبة و محفوفة المخاطر و كتب وثائق لا تقدر بثمن
نال الوسام بعد ان اقسم في تقرير رحلته انه سمع من المفتي في المدينة المقدسة ان الفتوى التي حصل عليها باستعمار فرنسا كانت صحيحة
في بداية رحلة كورتلمون للحج كان مدفوعا لكشف اسرار مكة وقال: "اردت الولوج لاسرار هذه المدينة لانني كنت مدفوعا برغبة اكمال ..
.. دراستي الشاملة عن المشرق المعاصر، مهد الديانات السماوية، هذا المشرق المسلم الذي احبه كما يحبونه الذين يعرفونه حق المعرفة"
لم يحب كورتلمون المنطقة فحسب، بل احب ديانة اهلها وقال انه يحب الاسلام في ايمانه الخالص و يحب فيه الامل الراسخ
ضمن كورتلمون كتابه بالكثير من الصور للاماكن المقدسة و اهلها و عمرانها و عادات سكانها ليضفي عليه المصداقية
انقسمت السلطة الفرنسية الى قسمين، قسم ايد سفره للحج، و قسم عارضه، في النهاية سافر الى الحج تحت اسم عبدالله ابن البشير
قال كورتلمون: "لا ارى شيئا اكثر تشريفا للرجل الفرنسي من ان تكلفه حكومته للقيام بمهام خارجية"
خرة كورتلمون من الجزائر عام ١٨٩٤ مع صديقه الجزائري أكلي، وكان أكلي قد شجعه على اداء فريضة الحج
اتت رحلة كورتلمون الى الحج بعد ٥٠ عاما من رحلة ليون روش، اتفق مع زميله ان يسافر الى السويس اولا و منها الى الحج
التقى أكلي في السويس و كان مريضا و نصحه الاطباء بتأجيل الرحلة لانه كان بحاجة للرحاة و الهواء النقي
بعد شفاء أكلي، غادرا سويا الى جدة
غادر كورتلمون السويس الى جدة على متن سفينة التي كان يرى على متنها متحفا انثوغرافي و مجموعة مختلفة من الاجناس و الاعراق
تدريجيا زادت الالفة بين الركاب المسلمين. اعجب كورتلمون من بين الركاب بتاجر من المدينة المنورة لمعرفته بجميع ما يجري في المنطقة
بعد ثلاثة ايام من مغادرة السويس، وصلا الى جدة، كان يصعب على السفينة الاقتراب من رصيف الميناء بسبب الشعاب المرجانية الخطيرة
يأتي مرشد من الميناء و يقود السفينة ببراعة بين الشعب المرجانية الى مكان تأتي اليه القوارب لنقل الحجاج الى رصيف الميناء
كان السنبوك الذي يحمل كورتلمون يلتوي بين الصخور المرجانية، كانت المسافة قصيرة الى رصيف الميناء ولكن محفوف بالمخاطر
عندما وصل الركاب، بدأ الزحام على طريق التزول، صراخ و صياح و تدافع بين الناس، تأشيرة الجوازات و اجراءات الجمرك .. الخ
شعد كورتلمون ان السلطات التركية تتعقبه لمعرفة تحركاته حين كان يشتري من السوق
وصف كورتلمون جدة قائلا: "شاطئها محترق مجدب، مرفأ موحش، وضعها محزن، لا يمكن تحمل الاقامة فيها، يقتلك الناموس ليل نهار ..
.. لا يمكن تحمل الاقامة فيها، الماء فاسد، لحرارة و الرطوبة مرهقة، لا يوجد فيها اثر للخضرة، منظر مدينة جدة محزن"
ولكنه وصف شوارعها بالحيوية، ارصفتها مليئة بالبضائع، جدران مبانيها حجرية، مشربياتها جميلة، سورها قوي
عبر كورتلمون عن اسفه لاهمال الاتراك المتعمد لهذه لمدينة جدة و الذي ستندم عليه يوما ما
وصف كورتلمون نظرات الشك و الريبة من سكان اهل جدة تجاهه و الذي كان يثير غضبه هو وصديقه
خفت نظرات الشك عندما دعا العمدة كورتلمون و صاحبه الى مأدبة عشاء و دعا اليها وجهاء جدة و اعيانها
للوصول الى مكة كان عليه ان يختار اما الجمال او الحمير، كان يرغب في امتطاء الجمل الذي يحب خطواته الناعمة على الرمال
الا ان كورتلمون اختار الحمير لانها تختصر المسافة الى يوم بدلا من يومين على ظهر الجمال، لبس كورتلمون الاحرام و سافر الى مكة
ركب كورتلمون على حماره عاري الجذع حليق الرأس تحت وجه الشمس المحرقة وكان اكثر ما يخشاه هو ان يصاب بضربة شمس
وصف كورتلمون مظاهر انعدام الامن في الطريق الى مكة قائلا: "كنا نسير و قلوبنا منقبضة نتقاطع مع القوافل دون ان نتوقف"
لم يتبادل كورتلمون الاحاديث مع الاخرين ولا حتى السلام خلافا للاعراف العربية، كان دائم الاستعداد لخوض معركة ويده على الزناد
توقف كورتلمون في حدة للراحة و وصلاة العشاء. شاهد تصرفات الادلاء و الجمالين و الحمارين مما يعكس خوف الجميع
كان كورتلمون يعيش احلك الظروف في حياتهو ماذا سيكون غدا؟ ما المصير الذي ينتظره عند دخوله للحرم الشريف في اليوم التالي؟
تجاوز الرحالة فجرا علامات الحرم وهي نقطة بداية تحريم الصيد، وكانت الطيور و الدواب آمنة تركض امام الناس دون خوف
كان وصوله الى مكة مفاجئا ولم يعلم انه وصل الا بعد ان وطأت قدماه اولى شوارع مكة
اقتاد المطوف عبدالرحمن بوشناق - مطوف المغاربة - كورتلمون الى مكان اقامته في مكة المكرمة
نظر الى الكعبة المشرفة شامخة و فند ادعاء الغرب ان الكعبة المشرفة ليست قبر الرسول صلى الله عليه و سلم
قال ان الكعبة هي بيت الله بالنسبة للمسلمين، سرة المسلمين، و كلهم حول العالم يتجهون اليها في صلواتهم
جلس كورتلمون في ساحة الحرم ينتابه شعور الاجلال و الاحترام و الحب، بعدها شرع في اداء اولى الصلوات ومن بعدها الطواف
انتاب كورتلمون حالة من الخشوع جعلته كما يقول، يفقد الاحساس بالجوع و التعب و العطش
وصل كورتلمون الى مكة قبل موعد الحج بشهر، وهذا مكنه وبسبب فراغ المكان من التمعن في ما يتعلق بالاكل و المبيت
سجل كورتلمون مشاعره قائلا: "شربت بلذة من ماء زمزم الذي كنت استزيد من شربه، لم يغمض لي جفن منذ ثلاث ليال منذ وصولي ..
.. استحضر ذكريات الايام التي قضيتها بمكة، هذه المدينة الخارقة، نزعت رداء حياتي الادمي لاغرق في نوع من السبات الروحي"
خصص كورتلمون في رحلته مساحة ليفند فيها دعاوي تلوث ماء زمزم
استطاع اثناء مقامه بمكة و سكانها يومئذ ١٠٠ الف نسمة، ٧٥٪ منهم من الهنود. تجول كورتلمون في احيائها وتعرف على شوارعها
استغرب كورتلمون من ترك الفوانيس مضاءة ليلا و اسواقها حيث تباع بضائع من ماركات اوروبية، داعيا فرنسا لتسويق بضائعها في مكة
قدم كورتلمون وصفا لضواحي و مباني مكة و اهتمام سكانها بتنظيف شوارعها بانفسهم
تحدث عن ظاهرة غريبة في مكة، جمال خضر تأتي كل ليلة الى مكة تحمل اهل التقى من موتى المسلمين من انحاء العالم
وتحمل هذه الجمال رفات غير المستحقين للدفن في مقابرها الى بلد بعيد، ونقل مفتي المالكية الشيخ عابد ما يعزز هذا ..
منها قصة فتى موركسي احب اميرة اسبانية اسلمت على يديه ثم فرقهما والدها النصراني
ماتت هي و دفنت في بلاد الروم، و لما اراد الفتى نبش قبرها لاسترداد اسورة كان اهداها اياها، فوجئ بجثة رجل بيده سبحة تلمع
اخد الشبحة و سافر بها الى مكة، وبينما كانت السبحة في يده وهو يتجول في شوارع مكة، اذا بمن يصيح فيه ان هذه السبحة لوالده
قال ان والده دفن في مقبرة المعلاة و اتهمه بانه نبش قبره و سرقها ..
عودة الى رحلة كورتلمون، تحدث الرحالة عن المطبعة الوطنية التي تطبع الكتب الدينية، وقال فيها: " خالجني احساس انني اقف امام ..
.. امام احدى مصادر قوة المستقبل، تنطلق من هذه المطبعة كتب تنشر في انحاء الدنيا تطالب بالزام الغرب بعتق الاسلام و تحريره"
اكبر كورتلمون في وصف اخلاق اهل البادية ممن يسكنون او يفدون الى مكة، قال انهم يعدون انفسهم من الاشراف
انفة مظهرهم شيء رائع. ظلوا احرارا بامتياز لا يقبلون اي نوع من انواع العبودية، بلدهم لا يزال الى اليوم بلد الحرية، لا تخضع لاي قيود
كانت موارد الوقود في مكة شحيحة، و يستخدم المكيون بعر الجمل المجفف و الخشب و نوعا شيئا من الفحم في الطبخ
وصف كورتلمون مشعر منى بعد الحج وهو خال من ٢٠٠ الف حاج بارض فسيحة صحراوية و عادية
كان ينتابه شعور بالخوف من ان يفتضح امره فيعدونه جاسوسا وربما يقتل، لانه لا يوجد من يمكن ان ينقذه مثل سلفه ليون روش
كان يواجه كل من يسأله ان كان جاسوسا انه لو كان كذلك لتخفى بين حسود الحجاج الاجانب و لم يكن احد ليلحظ ذلك
لفت الشيخ محمد عابد بن حسين نظر كورتلمون انه ينبغي ان يفرح لتساهل السلطات مع الاجانب تلك الايام
وقال ان السلطات وقبل سبع سنوات من ذلك التاريخ كانت تخلي مكة من الاجانب بعد موسم الحج
كانت اللحظة الحاسمة من رحلة كورتلمون عندما تمكن من التقاط بعض الصور لمكة من كاميرته التي كان يخفيها بين سجاد الصلاة
التقط كورتلمون صورا لمكة من فوق قمة جبل ابي قبيس، وكانت اولى الصور التي التقطت لمكة، وهي اكثر بلاغة من اي وصف
لما انهى كورتلمون المهمة التي ندب نفسه وندبته فرنسا لها، وجمع كل ما يحتاج من معلومات عن المدينة و احوال سكانها
زار الشيخ محمد عابد مفتي المالكية و طلب منه ان يحرر له رسالة تدل على صدق تعبده، و حرر له المفتي هذه الرسالة و كتب فيها ..
.." أمعنا النظر في حاله فوجدناه مؤمنا حقا"، وفيها توصيات لحاملها بالمزيد من معرفة الدين الاسلامي
امتطى الحمير مع صديقه أكلي للعودة الى جدة، التحقا بمسافرين آخرين في الطريق، سقط سبع مرات من ظهر الحمار ولم يصاب باذى
وصل كورتلمون الى جدة دون توقف عدا استراحات في نقاه في الطريق، دخل كورتلمون جدة من بوابة باب مكة
تلقى كورتلمون في جدة التهاني الحارة من القنصل الفرنسي على عودته سالما، وقام بعدة جولات داخل احياء جدة
كان كورتلمون دائم الحذر من الذين يراقبون تحركاته الا انه كان اكثر ارتياحا، و التقط العديد من الصور لمدينة جدة
كادر كورتلمون جدة على متن سفينة نمساوية كانت على وشك الابحار، ودع اصدقاءه من شخصيات جدة الذين ساعدوه في البداية
على متن السفينة ارتدى ملابس انيقة و تخلى عن مظاهر الفقر التي ساعدته في تشتيت الانتباه عنه و تخلص من التحفظ الصارم
كانت السفينة في طريقها الى ميناء ينبع، و كان يخطط للسفر الى المدينة المنورة، اقتربت السفينة من ميناء ينبع
كلما اقتربت السفينة بدا المنظر خلابا و تبدوا في الافق الجبال الشاهقة، لاحظ في اسواق ينبع انتشار تجارة الجملة
كانت البضائع تفرغ على ميناء ينبع، و تتقدم قوافل الجمال المتجه للمدينة لشرائها و نقلها الى المدينة المنورة
غادر كورتلمون ميناء ينبع دون زيارة المدينة المنورة بسبب مرض رفيقه أكلي
ولكنه عاد لاحقا و زار المدينة في مناسبة تدشين قطار السكة الحديد الحجازي عام ١٩٠٨ وفيها التقط كورتلمون اول صورة ملونة للمسجد النبوي
من ثمار زيارته لمكة ان فرنسا منحته وسام الشرف برتبة فارس
ينهي كورتلمون رحلته بالتاكيد على امرين، شعوره بشك اهل الحجاز باسلامه رغم انه لم يبدر منه اي تصرف فيه سخرية من الاسلام
و الثانية موقفه من الاسلام الذي لم يتغير قبل الرحلة و بعدها، و كرس صفحاته لتبديد سوء الفهم المزعج عن الاسلام
كان ينظر الى المستقبل الذي يتحقق فيه حلمه الجميل في السفر الى قلب الجزيرة العربية نجد
وصف الدكتور محمد خير البقاعي في محثه بمجله مكتبة الملك فهد الوطنية ان كورتلمون يكتب في كتابه عن الاسلام بروح المحب للاسلام
وهذا نادر مما يجعلنا نعجب المؤلف و نهنئه من صميم الفؤاد لانصافه و تجرده
و اشار البقاعي ايضا ان كورتلمون رزق بمولود كان له ثلاث اسماء، فيكتور، شارل، و عبدالله، ليسجل اهتداء كورتلمون للاسلام
مرض كورتلمون ١٥ شهرا و توفي عام ١٩٣١ في فرنسا، كفنوه بثوب احرامه الذي ادى فيه الحج
دفن و معه حلقة من الفضة بداخلها رسالة من مفتي المالكية وفيها انه "كان مسلما حقيقيا لا يبتغي في ذلك الا وجه الله" ….. انتهى