Saturday, September 24, 2016

رحلة فتح الله الصايغ

شغل الملك عبدالعزيز الكتاب و المؤرخين و الرحالة في حياته لضخامة التأثير الذي كان هو محوره في اوائل القرن العشرين

حقق الملك عبدالعزيز واحدا من اهم المنجزات في التاريخ العربي و الاسلامي بتوحيد الجزيرة العربية في كيان واحد، المملكة العربية السعودية

اجمع الكتاب و المفكرون و الدبلوماسيون و الرحالة على عبقرية الملك عبدالعزيز و ضخامة الانجاز الذي حققه رغم العديد من الصعوبات

ما حققه الملك عبدالعزيز مرتبط بالمكانة التي تحتلها الجزيرة العربية كونها تضم اقدس بقاع المسلمين

اعترفت الدولة العثمانية بمكانة الامارة السعودية منذ بداية تكوينها و التي كانت قائمة في الدرعية بشكل مباشر او غير مباشر

طال اهتمام الاوروبيين بالدولة السعودية الاولي منذ التحالف بين محمد ابن سعود و محمد بن عبدالوهاب للعودة بالمسلمين للاسلام الصافي

لم يخف الاوروبيون اعجابهم بمن التقوا من ائمة و امراء الدولة السعودية

وصف المستشرق ديفيد هوجارث، محمد ابن سعود بذوي المواهب المتعددة و طاقة كبيرة و جذور في الاصالة الاجتماعية

نرصد في هذه السلسلة ما قاله الكتاب و الرحالة المشاهير، و الذين اجمعوا على مكانة الملك عبدالعزيز في التاريخ

باكورة سلسلة رحالة في ديوان الملك عبدالعزيز آل سعود هو الرحالة فتح الله الصايغ

فتح الله أنطوان الصايغ، شاب سوري نصراني انتحل اسما في الرحلة وهو عبدالله الخطيب، من مواليد حلب عام ١٧٩٠

زار الدرعية برفقة الفرنسي تيودور لاسكاريس دي فنتيميل، و الذي انتحل بدوره اسم الشيخ ابراهيم اثناء تجواله في الجزيرة العربية

كانت المنطقة العربية آنذاك مسرحا لتنافس الجواسيس الاروروبيين، وكانت مهمة لاسكاريس التجسس لصالح نابليون بونابارت

كانت مهمة لاسكاريس كسب صداقة العرب و ابعادهم عن العثمانيين ليكونوا عونا لجيش كبير يمر من منطقتهم الى الهند

ارسل الانجليز الليدي استانوب لتعطيل مهمة هذا الجاسوس

شهد الصايغ في تلك الفترة معارك بين الجند السعودي و العثمانيين قرب حماة، حيث امتد نفوذ الدولة السعودية الاولى الى بادية الشام

استعان لاسكاريس في مهمته بالصايغ و تعلم العربية و اتخذه رفيقا و ترجمانا له في رحلاته

تعرفا على الدريعي بن شعلان، امير عرب الرولة شمال الجزيرة العربية و رحلا معه الى الدرعية لمقابلة حاكمها ابن سعود

حفظ الصايغ رحلة الجاسوس الفرنسي في مذكراته و التي شملت رحلاته معه و نشاطه التجاري و نشأت بينهما علاقة مودة

اشترى بضائع بغرض الاتجار بها استعدادا للرحلة و اطلق الجاسوس الفرنسي لحيته و كان يوهم الناس بأنه مجنون

بدأ الرحلة من حلب عام ١٨١٠ و طلب لاسكاريس من الصايغ تسجيل يوميات الرحلة و ما يشاهدانه

انطلقا من مارين، و معرة النعمان، فشيخون، فحماة، وفيها اقاما ٢٠ يوما و شك الحاكم في امرهما فسجنهما

بعد اطلاق سراحهما غادرا الى حمص، وفيها اقام ٣٠ يوما ليعمق الرحالة الفرنسي معرفته بالقبائل العربية و عاداتها و لهجاتها

غادر الى صدد، و سكانها من نصارى السريان، وحاول شيخها تثبيط همته و تخويفه من السفر الى بلاد العرب، لكنه واصل الرحلة

في الطريق الى تدمر، تعرضا لهجمة من فرسان البدو لانهم نصارى آتون الى تدمر بدون اذن اميرها، وقضوا فيها اياما

تعرفا على مهنا الفاضل، من شيوخ قبائل عنزه، و توجها الى مضارب قبيلته في البادية

تعايشوا ما تمر به المنطقة من فوضى حيث تتبادل القبائل الغارات، فكانوا بين منتصر و مهزوم و سالب و مسلوب

شاهدا تنافس شيوخ القبائل ليكونوا تبعا للدولة العثمانية و شاهدا العديد من القبائل التي تسعى للاستقلال بعيدا عن سلطتها

كان اكثر المتمردين، الدريعي بن شعلان، شيخ مشايخ قبائل عنزه وهم من انصار الدولة السعودية في الدرعية

اعجبا بسيرة الشيخ بعد ان سمعا انه لا يوجد في شمال الجزيرة العربية من هو اكبر منه، و عرف لاسكاريس انه هو المطلوب

انتظر لاسكاريس قرب دمشق حتى نهاية الشتاء و بدأ التمرن على عشرة العرب و تقوية لغته و التعرف على القبائل وعدد امرائها

توجه الى البادية الى مضارب الدريعي فاستقبلهما استقبالا حارا و امر بنحر جمل اكراما لهما، و كانت اول مرة يأكلان لحم الجمل 

كان ابن سعود، حاكم الدرعية، في تلك الاثناء يوطد سيادته بين عرب شمال الجزيرة العربية حتى دانت له و اصبحت تدفع له الزكاة

كان هم الجاسوس الفرنسي لاسكاريس كيف يجمع قبائل الشمال تحت قيادة الدريعي ليجعل منه سلطان العرب بدلا من ابن سعود

بلغت الاخبار ابن سعود ووقف على تفاصيل هذه الخطة مما اغضبه

كتب ابن سعود الى الدريعي: جميع ما عملته صار معلومكا لدينا. فهم ابن سعود حكاية التحالف بين الدريعي مع العثمانيين ضده

عزم ابن سعود على ان يكون ضده و ينهي ذكره و ذكر من وقف معه

نصح علي بن عواد، شيخ قبيلة الخرسامن الفدعان من عنزه، الدريعي بان يتجنب عمل الشيطان و يقلع عن عدائه لابن سعود

ابلغه ان سيف ابن سعود طويل و ماله كثير و جيشه طوابير ولا يمكن قتاله، بل انه سيندم حيث لا ينفع الندم

كان الجاسوس الفرنسي في تلك الاثناء يؤلب قبائل الشمال و يجمعونها تحت زعامة الدريعي

وصلت طلائع ابن سعود الى تدمر و منها الى غوطة الشام، و انهزم الجيش العثماني و الدريعي بعد معارك لاكثر من شهر

ارسل الامام ابن سعود رسالة الى الدريعي يدعوه للحضور للدرعية وهو عنده بأعز منزلة و قبول وقد صفح عن جميع زلاته

اشار الجاسوس الفرنسي و الصايغ الى الدريعي بالذهاب الى الدرعية، و قرر الصايغ ان يسافر معه دون الجاسوس الفرنسي

انطلق الدريعي و الحلبي في رفقة ١٢ شخصا الى الدرعية، وبعد ١٤ يوما، وصلوا الى مشارفها

نصحتهم احدى القبائل في الطريق بإخفاء الدخان و الغليون لانه محرم جدا ومن يوجد عنده لا يسامحونه

قال الحلبي في مذكراته: مشينا اربع ساعات بين النخيل الملتحم بعضه ببعض و التي تحمي البلده و تمنع عنها العدو ..

وصلنا الى باب المدينة وجدنا حولها تلالا سوداء عند السور، وكانت تلك عجوة يكدسونها من سنة الى سنة

امر ابن سعود ان ينزل الدريعي و رفاقه في دار الضيافة، وهي محل نظيف و مفروش و حالا احضروا لهم الغداء

طلب الدريعي الاذن بمقابلة ابن سعود، ووصف الصايغ ديوانه، سلم كل واحد عليه من غير تقبيل اليد، كما هي عند العثمانيين

وصف ابن سعود بانه في ال ٤٥ من العمر و يلبس ثوبا ابيض و مشلح حساوي اسود من غير قصب و كوفية و عمامة من القطن

بدأ اللقاء بعتاب ابن سعود على الدريعي لاعتدائه على بني صخرو قيامه بافعال و تحالفات مع العثمانيين بهدف التدمير و الخراب

شرح الدريعي الهدف من تحالفات القبائل التي اقامها في الشمال بهدف امتلاك عربستان كي تكون حصنا له امام الاتراك

تجول الصايغ في الدرعية التي كانت بلدة صغيرة فيها مياه وافرة و عمارتها من الحجر و سكانها ٧٠٠ نسمة فقط

كان لا يوجد بها سوق للبيع من نوع اكل و شرب، كل واحد يأكل في بيته، الغريب يضيفونه و يتسابقون على دعوته

كانت الدرعية تنظم سوقا كل اربعاء و يتعاملون بالريال الفرنجي و لا يتعاملون بالعملة العثمانية

وصف الصايغ ابن سعود بانه فصيح جدا، متكلم، و عنده علماء عارفون بامور دينهم، كان ابن سعود في احكامه يعتمد على احكام الدين

وصف موظفي ديوانه، فيهم كتبة الرسائل و عندهم حسابات تنظم الدخل و المصروفات

زار الصايغ اسطبل ابن سعود في الدرعية و كان يوجد فيها نحو ٢٠٠ فرس جميلة لا يوجد نظيرها عند غير الملوك

قبل انتهاء الرحلة، التقيا بابن سعود و اتفقا بقول وثيق انهما بحال واحد، والدم واحد و المال واحد و العدو واحد

بعد اللقاء حضرا الغداء ثم طلبا من ابن سعود الاذن لهما و رفاقه بالسفر يوم الغد، و عاد الدريعي الى مكان الضيافة ليستعدا للسفر

ارسل ابن سعود لهما فرسين لا يقدرا بثمن لكل منهما و سيفا من افخر السيوف للدريعي و ١٠٠ ريال فرنجي

يوجها يوم السفر لابن سعود ليودعانه و صدف وجود رسول من ينبع يبلغه بان جيش محمد علي باشا وصل الى ينبع

و ابلغه انه في طريقه للمدينة، ضحك ابن سعود و قال: ان شاء الله يصير بهم اكثر مما صار بهم سابقا ..

غادر الدريعي و الصايغ الدرعية عبر الطريق الحجازي الى بلاد حوران، في خامس يوم السفر وجد جميع الجمال طامرة رؤوسها في الرمال

عرفوا ان رياح السموم قادمة، وهي رياح حارة جدا تستشعر الجمال وصولها قبل ثلاث ساعات

تطمر الجمال رؤوسها في الرمال حتى لا يدخل السموم في مناخيرها، و تأهب العرب للاحتماء من هذه الريح

اغلقوا الخيام من جهاتها الاربع و ادخلوا داخلها الماء و سدوا آذان الخيل حتى لا يصيبها الضرر، و غطى كل واحد منهم بمشلحه

لما وصلت الريح كأن ابواب جهنم قد فتحت نارا لا يوصف و دامت الريح ١٠ ساعات كادت ان تأخذ ارواحهم

لما توقفت وجدوا وجوه العربان سوداء و كأنهم خرجوا من حريق و مات من هذه الريح ٨ اشخاص

وصف الصايغ البدو بانهم سريعوا الغضب، سريعوا الرضا، محبون للحروب و الغارات ولهم صبر على الجوع و العطش و الحر و البرد

اكلهم و ملبسهم بسيط و يمشون حفاة و ينتعلون في المناسبات فقط

وصف نساء البادية بانهن يتعبن اكثر من الرجال، فعليهن جمع الحطب و الماء و الطبخ و حلب النوق وهن موقرات مسموعات الكلمة

الرجال لا يبولون الا وقوفا، و الولد منذ ولادته حتى وفاته لا يحلق شعر رأسه

انتهت رحلة الصايغ و زميله الجاسوس الفرنسي على ما تحقق من جمع المعلومات التي يريدها و لقائه بابن سعود

مات الفرس التي اهداها ابن سعود للصايغ و كان يعول على بيعها بثمن كبير لانها من الخيل الحرائر

وصلا الى اسطنبول وفيها عرف عن هزيمة جيش نابليون في روسيا، فغمه ذلك جدا و زاد الغم بالطاعون الذي انتشر في اسطنبول

لما انهزمت فرنسا، استنجد الجاسوس الفرنسي بالانجليز، فمنحه السفير في اسطنبول جوازي سفر انجليزيين

افترقا و ذهب الجاسوس الفرنسي الى مصر و الصايغ الى اللاذقية، فاجتمع بوالدته بعد فراق دام ٧ سنوات

جائه خبر وفاة الجاسوس الفرنسي في القاهرة، فاصابه الغم و الكدر و شعر ان سنوات الرحلة ذهب سدى

زاد الغم عندما استولى السفير الانجليزي في القاهرة على مقتنيات و رحلة الجاسوس الفرنسي كونه يحمل جواز بريطاني

مات الجاسوس الفرنسي و تعب التلميذ و اجرته التي لم يستلمها سدى

بقي ان نذكر في ختام ملخص هذه الرحلة شك البعض من علماء نجد في وقوعها و خاصة فيما يتعلق بالرحلة الى الدرعية

فند الشيخ احمد بن حسين الحنبلي المتوفي سنة ١٨٤١ ولخص رأيه فيها بقوله: كذب الصايغ ولم يصدق في شيء

المستشرق الفرنسي فلوجنس فرينل الذي كان قنصل جدة جزم بصحة الرحلة وما ورد فيها

اتخد محقق الرحلة -شلحد- موقفا وسطا بعد ان اطلع على نص المخطوط للرحلة و قارنه بترجمة لامرأتين لها

وجد بعد الهوة بينهما مصدقا الشيخ الحنبلي في جانب مما فنده بعد ان اطلع على نص المخطوط للرحالة

مرجعا ما نفاه الى ترجمتها من العربية الى الفرنسية و منها الى العربية مرة اخرى مما حرف عبارات الرحالة الصايغ

يحتمل ما انكره الشيخ الحنبلي في وصف الصايغ لابن سعود انه كان يعني والده عبدالله وليس سعود  الكبير الذي كان في الدرعية وقت الزيارة